فصل: الخبر عن بيعة ابن الأحمر.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن بيعة المرية.

لما هلك محمد بن هود بالمرية سنة خمس وثلاثين وستمائة كما ذكرناه واستبد وزيره أبو عبد الله محمد بن الرميمي بها وضبطها لنفسه وضايقه ابن الأحمر فبعث ببيعته سنة أربعين إلى الأمير أبي زكريا حين أخذ أهل شرق الأندلس بطاعته ولم يزل ابن الأحمر يحاصره إلى أن تغلب عليه سنة ثلاث وأربعين وستمائة كما ذكرناه في أخباره وخرج منها إلى سبتة بأهله وذخيرته وأحله أبو علي ابن خلاص محل البر والتكرمة وأنزله خارج المدينة في بساتين بنيوش وأجمع الثورة بأبي خلاص فنذر به وتغير له فلما رجع الأسطول من أشبيلية ركبه الرميمي ولحق بتونس فنزل على الأمير أبي زكريا وحل من حضرته محل التكرمة واستوطن تونس وتملك بها الضياع والقرى وشيد القصور إلى أن هلك والبقاء لله وحده.

.الخبر عن بيعة ابن الأحمر.

كان محمد بن الأحمر قد انتزى على ابن هود ببلده أرجونة وتملك جيان وقرطبة وأشبيلية وغرب الأندلس وطالت فتنته مع ابن هود وراجع طاعته ثم انتقض عليه وبايع للرشيد سنة ست وثلاثين وستمائة عندما بايعه أهل أشبيلية وسبتة فلم يزل على ذلك إلى أن هلك الرشيد على حين استفحال ملك الأمير أبي زكريا بأفريقية وتأميله للنصرة والكرة فحول ابن الأحمر إليه الدعوة وأوفد بها أبا بكر بن عياش من مشيخة مالقة فرجعهم الأمير أبو زكريا بالأموال للنفقات الجهادية ولم يزل يواصلها لهم من بعد ذلك إلى أن هلك سنة سبع وأربعين وستمائة فأطلق ابن الأحمر نفسه من عقال الطاعة واستبد بسلطانه.

.الخبر عن بيعة سجلماسة وانتقاضها.

كان عبد الله بن زكريا الهزرجي من مشيخة الموحدين واليا بسجلماسة لبني عبد المؤمن ولما هلك الرشيد وبويع أخوه السعيد سنة أربعين وستمائة ونميت إليه عن الهزرجي عظيمة من القول خشن بها صدره وبعث إليه مستعتبا فلم يعتبه ومزق كتابه فخشيه الهزرجي على نفسه واتصل به ما كان من استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان ونواحيها فخاطبه بطاعته وأوفد عليه بيعته فعقد له الأمير أبو زكريا على سجلماسة وأنحائها وفوض إليه في أمرها ووعده بالمدد من المال والعسكر لحمايتها وخطب له عبد الله بسجلماسة وفر إليه من مراكش أبو زيد الكدميوي بن واكاك وأبو سعيد العود الرطب فلحق بتونس وأقام أبو زيد معه بسجلماسة وزحف إليه السعيد سنة إحدى وأربعين وستمائة وقيل سنة أربعين ومن معسكره كان مفر أولئك المشيخة وخاطب السعيد أهل سجلماسة وداخلهم أبو زيد الكدميوي فغدروا بالهزرجي وثاروا به فخرج من سجلماسة وأسلمها وقام بأمرها أبو زيد الكدميوي وطير بالخبر إلى السعيد فشكر له فعلته وغفر له سالفته وتقبض على عبد الله الهزرجي بعض الأعراب وأمكن منه السعيد فقتله وبعث برأسه إلى سجلماسة فنصب بها ورجع من طريقه إلى مراكش وأقامت سجلماسة على دعوة عبد المؤمن إلى أن كان من خبرها ما نذكره في موضعه.

.الخبر عن بيعة مكناسة وما تقدمها من طاعة بني مرين.

كان بين بني عبد الواد وبين بني مرين منذ أوليتهم وتقبهم في القفار فتن وحروب ولكل منهما أحلاف في المناصرة وأشياع فلما التاثت دولة بني عبد المؤمن غلب كل منهما على موطنه وكانت السابقة في ذلك لبني عبد الواد ليعدهم عن حضرة مراكش حيث محشر العساكر ويعسوب القبائل ولما استبد الأمر أبو زكريا بأمر أفريقية ودوخ المغرب الأوسط وافتتح تلمسان وأطاعه بنو عبد الواد حذر بنو مرين حينئذ غائلتهم وخافوا أن يظاهرهم الأمير أبو زكريا عليهم فألانوا له في القول ولاطفوه على البعد بالطاعة وخاطبوه بالتمويل وأوجبوا له حق الخلافة ووعدوه أن يكونوا أنصارا لدعوته وأعوانا في أمره ومقدمة في عسكره إلى مراكش وزحفه وحملوا من تحت أيديهم من قبائل المغرب وأمصاره على طاعتهم والاعتصام ببيعتهم ولم تزل المخاطبات بينهم وبين الأمير أبي زكريا في ذلك من أميرهم عثمان بن عبد الحق وأخيه محمد من بعده ورسلهم تفد عليه بذلك مرة بعد أخرى إلى أن هلك الرشيد وقد استولى الأمير أبو زكريا على تلمسان ودخل في دعوته قبائل زناتة بالمغرب الأوسط واستشرف أهل الأمصار من العدوتين إلى إيالته وكان أهل مكناسة قد اعتصموا بوصلة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق وجاءهم وال من مراكش وأساء فيهم السيرة فتوثبوا به وقتلوه وبعثوا إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق فحملهم على بيعة الأمير أبي زكريا فأنفذوها من إنشاء قاضيهم أبي المطرف بن عميرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة وضمن أبو يحيى بن عبد الحق حمايتهم خلال ما يأتيهم أمر السلطان من تونس ومدده وبلغ الخبر إلى السعيد فأرهف حده واعتزم على النهوض إليهم فخامهم الرعب وراجعوا طاعته وأوفدوا صلحاءهم وعلماءهم في الإقالة واغتفار الجريدة فتقبل ذلك إلى أن كان من حركته بعد ذلك ومهلكه ما هو معروف.

.الخبر عن مهلك الأمير أبي يحيى زكريا ولي العهد بمكان إمارته من بجاية وتصيير العهد الى أخيه محمد.

كان الأمير أبو زكريا قد عقد لابنه أبي يحيى زكريا على ثغر بجاية قاعدة ملك بني حماد وجعل إليه النظر في سائر أعمالها من الجزائر وقسنطينة وبونة والزاب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة كما ذكرناه فاستقل بذلك وكان بمكان من الترشيح للخلافة بنفسه وجلاله وانتظامه في سلك أهل العلم والدين وإيناس العدل فولاه الأمير أبو زكريا عهده سنة ثمان وثلاثين وستمائة وأحضر الملأ لذلك وأشهدهم في كتابه وأوعز بذكره في الخطبة على المنابر مع ذكره وكتب إليه بالوصية التي تداولها الناس من كلامه ونصها:
اعلم سددك الله وأرشدك وهداك لما يرضيه وأسعدك وجعلك محمود السيرة مأمون السريرة إن أول ما يجب على من استرعاه الله في خلقه وجعله مسؤولا عن رعيته في جل أمرهم ودقه أن يقدم رضى الله عز وجل في كل أمر يحاوله وأن يكل أمره وحوله وقوته لله ويكون عمله وسعيه وذبه عن المسلمين وحربه وجهاده للمؤمنين بعد التوكل عليه والبراءة من الحول والقوة إليه ومتى فاجأك أمر مقلق أو ورد عليك نبأ مرهق فريض لبك وسكن جأشك وارع عواقب أمر تأتيه وحاوله قبل أن ترد عليه وتغشيه ولا تقدم إقدام الجاهل ولا تحجم إحجام الأخرق المتكاسل واعلم أن الأمر إذا ضاق مجاله وقصر عن مقاومته رجاله فمتاحه الصبر والحزامة والأخذ مع عقلاء الجيش ورؤسائهم وذي التجارب من نبهائهم ثم الإقدام عليه والتوكل على الله فيما لديه والإحسان لكبير جيشك وصغيره الكثير على قدره والصغير على قدره ولا تلحق الحقير بالكبير فتجري الحقير على نفسك وتغلطه في نفسه وتفسد نية الكبير وتؤثره عليك فيكون إحسانك إليه مفسدة في كلا الوجهين ويضيع إحسانك وتشتت نفوس من معك.
واتخذ كبيرهم أبا وصغيرهم ابنا واخفض لهم جناح الذل من الرحمة وشاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين واتخذ نفسك صغيرة وذاتك حقيرة وحقر أمورك ولا تستمع أقوال الغالطين المغلطين بأنك أعظم الناس قدرا وأكثرهم بذلا وأحسنهم سيرة وأجملهم صبرا فذاك غرور وبهتان وزور.
واعلم من تواضع لله رفعه الله وعليك بتفقد أحوال رعيتك والبحث عن عمالهم والسؤال عن سير قضاتهم فيهم ولا تنم عن مصالحهم ولا تسامح أحدا فيهم ومهما دعت لكشف ملمة فاكشفها عنهم ولا تراع فيهم كبيرا ولا صغيرا إذا عدل عن الحق ولا تراع في فاجر متصرف إلا ولا ذمة ولا تقتصر على شخص واحد في رفع مسائل الرعية والمتظلمين ولا تقف عند مراده في أحوالهم.
واتخذ لنفسك ثقاة صادقين مصدقين لهم في جانب الله أوفر نصيب وفي مسائل خلقه إليك أسرع مجيب وليكن سؤالك لهم أفذاذ فأنك متى اقتصرت على شخص واحد في نقله ونصحه حمله الهوى على الميل ودعته الحمية إلى تجنب الحق وترك قول الصدق وإذا رفع إليك أحد مظلمة وأنت على طريق فادعه إليك وسله حتى يوضح قصته لك وجاوبه جواب مشفق مصغ إلى قوله مصيخ إلى نازلته ونقله ففي إصاختك له وحنوك عليه أكبر تأنيس وللسياسة والرئاسة في نفوس الخاصة والعامة والجمهور أعظم تأسيس.
واعلم أن دماء المسلمين وأموالهم حرام على كل مؤمن بالله واليوم الآخر إلا في حق أوجبه الكتاب والسنة وعضدته أقاويل الشرعية والحجة أو في مفسد عاثت في طرقات المسلمين وأموالهم جار على غيه في فساد صلاتهم وأحوالهم فليس إلا السيف فإن أثره عفاء ووقعه لداء الأدمغة الفاسدة دواء ولا تقل عثرة حسود على النعم عاجز عن السعي فإن إقالته تحمله على القول والقول يحمله على الفعل ووبال عمله عائد عليك فاحسم داءه قبل انتشاره وتدارك أمره قبل إظهاره واجعل الموت نصب عينيك ولا تغتر بالدنيا وإن كانت في يديك لا تنقلب إلى ربك إلا بما قدمته من عمل صالح ومتجر في مرضاته رابح.
واعلم أن الإيثار أربح المكاسب وأنجح المطالب والقناعة مال لا ينفد وقد قال بعض المفسرين في قوله عز من قائل: {وتركنا عليه في الآخرين} إنه النبأ الحسن في الدنيا على ما خلد فيها من الأعمال المشكورة والفعلات الصالحة المذكورة فليكفك من دنياك ثوب تلبسه وفرس تذب به عن عباده وأرجو بك متى جعلت وصيتي هذه نصب عينيك لم تعدم من ربك فتحا ييسره على يديك وتأييدا ملازما لا يبرح عنك إلا إليك بمن الله وحوله وطوله والله يجعلك ممن سمع فوعى ولبى داعي الرشد إذ دعا إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تمت الوصية المباركة فعظم ترشيح الأمير أبي يحيى لذلك وعلا في الدولة كعبه وقوي عند الكافة تأميله وهو بحاله من النظر في العلم والجنوح للدين إلى أن هلك سنة ست وأربعين وستمائة فأسى له السلطان واحتفل الشعراء في رثائه وتأبينه فكانوا يثيرون بذلك شجو السلطان ويبعثون حزنه وعقد العهد من بعده لأخيه الأمير أبي عبد الله محمد بحضور الملأ وإيداع الخاصة كتابهم بذلك في السجل إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعده.